.تَنْبِيهٌ:
ظَاهِرُ كَلَامِ الْكَثِيرِينَ تَخْصِيصُ هَذَا الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَقَدْ سَبَقَ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ وَآخَرِينَ مَجِيئُهُ فِي (أَوْ) فِي قَوْلِهِ:
{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نفسه} مَعَ أَنَّ ظُلْمَ النَّفْسِ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ فَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَالْمَعْنَى: يَظْلِمُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ السُّوءِ حَيْثُ دَسَّاهَا بِالْمَعْصِيَةِ.وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} فَإِنَّ الْوَحْيَ مَخْصُوصٌ بِمَزِيدِ قُبْحٍ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ الِافْتِرَاءِ خُصَّ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى مَزِيدِ الْعِقَابِ فِيهِ وَالْإِثْمِ.وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ إِذَا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} مَعَ أَنَّ فِعْلَ الْفَاحِشَةِ دَاخِلٌ فِيهِ قِيلَ أُرِيدَ بِهِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ ظُلْمِ النَّفْسِ وَهُوَ الرِّبَا أَوْ كُلُّ كَبِيرَةٍ فَخَصَّ بِهَذَا الِاسْمِ تَنْبِيهًا عَلَى زِيَادَةِ قُبْحِهِ وَأُرِيدَ بِظُلْمِ النَّفْسِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ.
.الْقِسْمُ السَّادِسُ: ذِكْرُ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ:
وَهَذَا أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ وُجُوَدَهُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَاضِحَةٌ وَالِاحْتِمَالَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْعَامِّ قَبْلَهُ ثَابِتَانِ هُنَا أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
{إِنَّ صلاتي ونسكي} وَالنُّسُكُ الْعِبَادَةُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الصَّلَاةِ.وَقَوْلُهُ:
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وأن الله علام الغيوب}.وَقَوْلُهُ:
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ العظيم}.وقوله إِخْبَارًا عَنْ نُوحٍ:
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات}.وَقَوْلُهُ:
{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير}.وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى:
{وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمر} بعد قوله:
{قل من يرزقكم}.وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ يَقَعَانِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ لَكِنَّ وُقُوعَهُمَا فِي الْأَفْعَالِ لَا يَأْتِي إِلَّا فِي النَّفْيِ وَأَمَّا فِي الْإِثْبَاتِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَلْ مِنْ عَطْفِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَوِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ.
.الْقِسْمُ السَّابِعُ: عَطْفُ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى وَالْقَصْدُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ:
وَهَذَا إِنَّمَا يَجِيءُ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ بِالْوَاوِ وَيَكُونُ فِي الْجُمَلِ كَقَوْلِهِ:
{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}.وَيَكْثُرُ فِي الْمُفْرَدَاتِ كَقَوْلِهِ:
{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا استكانوا}.وقوله:
{فلا يخاف ظلما ولا هضما} {لا تخاف دركا ولا تخشى}.وقوله:
{ثم عبس وبسر}.وَقَوْلِهِ:
{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}.وقوله:
{لا تبقي ولا تذر}.وَقَوْلِهِ:
{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}.وَقَوْلِهِ:
{لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} قَالَ الْخَلِيلُ: الْعِوَجُ وَالْأَمْتُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَقِيلَ: الْأَمْتُ أَنْ يَغْلُظَ مَكَانٌ وَيَرِقَّ مَكَانٌ قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي (الْمَقَايِيسِ) وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَا قَالَهُ الْخَلِيلُ.وَقَوْلِهِ:
{أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونجواهم}.وقوله:
{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}.وقوله:
{إلا دعاء ونداء}.وَفَرَّقَ الرَّاغِبُ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالدُّعَاءِ بِأَنَّ النِّدَاءَ قَدْ يُقَالُ إِذَا قِيلَ (يَا) أَوْ (أَيَا) وَنَحْوَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ الِاسْمَ وَالدُّعَاءُ لَا يَكَادُ يُقَالُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ الِاسْمُ نَحْوَ: يَا فُلَانُ. وَقَوْلِهِ:
{إِنَّا أطعنا سادتنا وكبراءنا}.وَقَوْلِهِ:
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مرض}.وَقَوْلِهِ:
{لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} فَإِنَّ (نَصَبٌ) مِثْلُ (لَغَبٍ) وَزْنًا وَمَعْنًى وَمَصْدَرًا وَقَوْلِهِ:
{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ ربهم ورحمة} عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الصَّلَاةَ بِالرَّحْمَةِ وَالْأَحْسَنُ خِلَافُهُ وَأَنَّ الصَّلَاةَ لِلِاعْتِنَاءِ وَإِظْهَارِ الشَّرَفِ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْمُتَغَايِرَيْنِ.وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ من قبلك} إِنَّهُمْ هُمُ الْمَذْكُورُونَ أَوَّلًا وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الصِّفَةِ.وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ شَرْطَ عَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الصِّفَةِ تَغَايُرُ الصِّفَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ الْعَالِمُ وَالْجَوَادُ وَالشُّجَاعُ أَيِ الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الْمُتَغَايِرَةِ وَلَا تَقُولُ: زَيْدٌ الْعَالِمُ وَالْعَالِمُ فَإِنَّهُ تَكْرَارٌ وَالْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{الذين يؤمنون بالغيب} وَالْمَعْطُوفُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إليك} وَالْمُنْزَلُ هُوَ الْغَيْبُ بِعَيْنِهِ.وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُطْلَقُ الْغَيْبِ وَالْمَعْطُوفُ غَيْبٌ خَاصٌّ فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى:
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وبالزبر وبالكتاب المنير} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ.هو الزبور ونقله على إِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ النَّعْتِ كَمَا تُعْطَفُ النُّعُوتُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَهَذَا يَرُدُّهُ تَكْرَارُ الْبَاءِ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِالْفَصْلِ لِأَنَّ فَائِدَةَ تَكْرَارِ الْعَامِلِ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ إِشْعَارٌ بِقُوَّةِ الْفَصْلِ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَعَدَمِ التَّجَوُّزِ فِي العطف الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ.وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لِلتَّأْسِيسِ وَبَيَانُهُ وَجُوهٌ:أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
{جَاءَتْهُمُ} يَعُودُ الضَّمِيرُ فِيهِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَيَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلًا فِي الْمُرْسَلِينَ الْمَذْكُورِينَ وَالْكِتَابُ الْمُنِيرُ هُوَ الْقُرْآنُ وقوله تعالى:
{ثم أخذت الذين كفروا} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ: كَذَّبُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بِقِيَامِ الحجة عليهم
{بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} وَجَاءَ تَقْدِيمُ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْعَطْفِ اعْتِرَاضًا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَهُوَ مِنْ أَدَقِّ وُجُوهِ الْبَلَاغَةِ وَمِثْلُهُ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ قَوْلُهُ تعالى:
{فقد كذب رسل من قبلك} وَقَوْلُهُ:
{جَاءُوا} انْصِرَافٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: جَاءَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فَيَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلًا فِي الضَّمِيرِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ جِئْتُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَأَقَامَ الْإِخْبَارَ عَنِ الْغَائِبِ مَقَامَ الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{جَرَيْنَ بهم} وَفِيهِ وَجْهٌ مِنَ التَّعَجُّبِ كَأَنَّ الْمُخَاطَبَ إِذَا اسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ رَجَعَ إِلَى الْغَيْبَةِ لِيَعُمَّ الْإِخْبَارُ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْآيَتَيْنِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: الْكِتَابِ الْمُنِيرِ يَعْنِي الْقُرْآنَ.فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ:
{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بعدي اسمه أحمد} وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ.
.تَنْبِيهَاتٌ:
الْأَوَّلُ: أَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ هَذَا النَّوْعَ وَمَنَعَ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى مِثْلِهِ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَأَوَّلَ مَا سَبَقَ بِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَعَلَّهُ مِمَّنْ يُنْكِرُ أَصْلَ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ كَالْعَسْكَرِيِّ وَغَيْرِهِ.الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَخْصِيصِ هَذَا النَّوْعِ بِالْوَاوِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَقَدْ أُنِيبَتْ (أَوْ) عَنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} {ومن يكسب خطيئة أو إثما}.قَالَ شَيْخُنَا: وَفِيهِ نَظَرٌ لِإِمْكَانِ أَنْ يُرَادَ بِالْخَطِيئَةِ مَا وَقَعَ خَطَأً وَبِالْإِثْمِ مَا وَقَعَ عَمْدًا قُلْتُ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ:
{وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نفسه}.وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ».قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ قَدْ سَبَقَهُ بِهِ ثَعْلَبٌ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ فَقَالَ ثَعْلَبٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{عُذْرًا أَوْ نذرا} الْعُذْرُ وَالنُّذْرُ وَاحِدٌ.قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: وَبَعْضُهُمْ يُثَقِّلُ.وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ يُجْرَى فِي الْعَطْفِ بِثُمَّ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ:
{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} قَالَ: مَعْنَاهُ: (وَتُوبُوا إِلَيْهِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ الِاسْتِغْفَارُ) وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَدْ تَجَرَّدَ عَنِ الْعَطْفِ وجعل منه قوله تعالى:
{وغرابيب سود} والغرابيب هي السود
{سبلا فجاجا} {الرحمن الرحيم} وَغَيْرُ ذَلِكَ الثَّالِثُ: مِمَّا يَدْفَعُ وَهْمَ التَّكْرَارِ فِي مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْمُتَرَادِفَيْنِ يُحَصِّلُ مَعْنًى لَا يُوجَدُ عِنْدَ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ التَّرْكِيبَ يُحْدِثُ مَعْنًى زَائِدًا وَإِذَا كَانَتْ كَثْرَةُ الْحُرُوفِ تُفِيدُ زِيَادَةَ الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الْأَلْفَاظِ.
.الْقِسْمُ الثَّامِنِ: الْإِيضَاحُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ:
لِيُرَى الْمَعْنَى فِي صُورَتَيْنِ أَوْ لِيَكُونَ بَيَانُهُ بَعْدَ التَّشَوُّفِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَلَذُّ لِلنَّفْسِ وَأَشْرَفُ عِنْدَهَا وَأَقْوَى لِحِفْظِهَا وَذِكْرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هؤلاء مقطوع مصبحين}.وقوله تعالى
{قل هو الله أحد} فَإِنَّ وَضْعَ الضَّمِيرِ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ مَعْنَاهُ الْبَيَانُ أَوِ الْحَدِيثُ أَوِ الْأَمْرُ لِلَّهِ أَحَدٌ مَكْفُوًّا بها ثم فسر وكان أو قع فِي النَّفْسِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِ مُفَسَّرًا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ وَلِذَلِكَ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ وَتُفِيدُ بِهِ الْجُمْلَةُ الْمُرَادَ تَعْظِيمًا لَهُ.وَسَيَأْتِي عَكْسُهُ فِي وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ.وَمِثْلُهُ التَّفْصِيلُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}.وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة}.وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ ميقات ربه أربعين ليلة} وَأَعَادَ قَوْلَهُ:
{أَرْبَعِينَ} وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا مِنَ الثلاثين والعشر أَنَّهَا أَرْبَعُونَ لِنَفْيِ اللَّبْسِ لِأَنَّ الْعَشْرَ لَمَّا أَتَتْ بَعْدَ الثَّلَاثِينِ الَّتِي هِيَ نَصٌّ فِي الْمُوَاعَدَةِ دَخَلَهَا الِاحْتِمَالُ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ الْمُوَاعَدَةِ فَأَعَادَ ذِكْرَ الْأَرْبَعِينِ نَفْيًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ وَلِيُعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْعَدَدِ لِلْمُوَاعَدَةِ.وَهَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} أَعَادَ ذِكْرَ الْعَشَرَةِ لَمَّا كَانَتِ الْوَاوُ تَجِيءُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِلْإِبَاحَةِ وَقَوْلُهُ:
{كَامِلَةٌ} تَحْقِيقٌ لِذَلِكَ وَتَأْكِيدٌ لَهُ فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا كَانَ زَمَنُ الْمُوَاعَدَةِ أَرْبَعِينَ فَلِمَ كَانَتْ ثَلَاثِينَ ثُمَّ عشرا؟أَجَابَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي (التَّكْمِيلِ وَالْإِفْهَامِ) بِأَنَّ الْعَشْرَ إِنَّمَا فُصِلَ مِنْ أُولَئِكَ لِيَتَحَدَّدَ قُرْبُ انْقِضَاءِ الْمُوَاعَدَةِ وَيَكُونُ فِيهِ مُتَأَهِّبًا مُجْتَمِعَ الرَّأْيِ حَاضِرَ الذِّهْنِ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الْأَرْبَعِينَ أَوَّلًا لَكَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فَإِذَا جَعَلَ الْعَشْرَ فِيهَا إِتْمَامًا لَهَا اسْتَشْعَرَتِ النَّفْسُ قُرْبَ التَّمَامِ وَتَجَدَّدَ بِذَلِكَ عَزْمٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ.قَالَ: وَهَذَا شَبِيهٌ بِالتَّلَوُّمِ الَّذِي جَعَلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْآجَالِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْأَحْكَامِ وَيُفْصِلُونَهُ مِنْ أَيَّامِ الْأَجَلِ وَلَا يَجْعَلُونَهَا شَيْئًا وَاحِدًا وَلَعَلَّهُمُ اسْتَنْبَطُوهُ مِنْ هَذَا.فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَعْنِي الْأَعْرَافَ الثَّلَاثِينَ ثُمَّ الْعَشْرَ وَقَالَ فِي الْبَقَرَةِ:
{وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} وَلَمْ يَفْصِلِ الْعَشْرَ مِنْهَا.وَالْجَوَابُ-وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: أَنَّهُ قَصَدَ فِي الْأَعْرَافِ ذِكْرَ صِفَةِ الْمُوَاعَدَةِ وَالْإِخْبَارَ عَنْ كَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا فَذَكَرَ عَلَى صِفَتِهَا وَفِي الْبَقَرَةِ إِنَّمَا ذَكَرَ الِامْتِنَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَذَكَرَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ مُجْمَلَةً فَقَالَ:
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} {وإذ أنجيناكم من آل فرعون}.وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ لَنَا مِمَّا سَبَقَ جَوَابَانِ فِي ذِكْرِ الْعَشَرَةِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ إِمَّا الْإِجْمَالُ بَعْدَ التَّفْصِيلِ وَإِمَّا رَفْعُ الِالْتِبَاسِ وَيُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ:ثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَصَدَ رَفْعَ مَا قَدْ يَهْجِسُ فِي النُّفُوسِ مِنْ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِنَّمَا عَلَيْهِ صَوْمُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ لَا أَكْثَرَ ثَلَاثَةً مِنْهَا فِي الْحَجِّ وَيُكْمِلُ سَبْعًا إِذَا رَجَعَ.رَابِعُهَا: أَنَّ قَاعِدَةَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْجِنْسَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَفِّرِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَلَا يَلْزَمُ الْحَالِفَ أَنْ يُطْعِمَ الْمَسَاكِينَ وَيَكْسُوَهُمْ وَلَا الْمَظَاهِرَ الْعِتْقُ وَالصَّوْمُ فَلَمَّا اخْتَلَفَ مَحِلُّ هَذَيْنِ الصَّوْمَيْنِ فَكَانَتْ ثَلَاثَةً فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ صَارَا بِاخْتِلَافِ الْمَحِلَّيْنِ كَالْجِنْسَيْنِ وَالْجِنْسَانِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَأَفَادَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ-وَهِيَ قَوْلُهُ:
{تلك عشرة كاملة}-رَفْعَ مَا قَدْ يَهْجِسُ فِي النُّفُوسِ مِنْ أنه إنما عليه أحد النوعين: إما الثلاثة وَإِمَّا السَّبْعُ.الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ كَمَالٍ لَا ذِكْرُ الْعَشَرَةِ فَلَيْسَتِ الْعَشَرَةُ مَقْصُودَةً بِالذَّاتِ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ إِلَّا لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ التَّفْصِيلَ الْمُتَقَدِّمَ عَشَرَةٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ وإنما ذكر لتوصف بالكامل الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْقِصَّةِ.السَّادِسُ: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَالتَّقْدِيرُ: فَصِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ: ثَلَاثَةٌ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعْتُمْ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَصْلِ لَكِنَّ الْإِشْكَالَ أَلْجَأَنَا إِلَيْهِ.السَّابِعُ: أَنَّ الْكَفَّارَاتِ فِي الْغَالِبِ إِنَّمَا تَجِبُ مُتَتَابِعَةً كَكَفَّارَاتِ الْجِنَايَاتِ وَلَمَّا فَصَلَ هَاهُنَا بَيْنَ صَوْمِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ بِالْإِفْطَارِ قَبْلَ صَوْمِهَا بِذِكْرِ الْفِدْيَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَهِيَ كَالْمُتَّصَلَةِ.فَإِنْ قُلْتَ: فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ لَا تَجِبُ مُتَتَابِعَةً وَمِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ إِذَا حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْفِدْيَةِ فَإِنَّهُ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّتَابُعُ.قُلْتُ: هِيَ فِي حُكْمِ الْمُتَتَابِعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّوَابِ إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ خَفَّفَ بِالتَّفْرِيقِ.ثَامِنُهَا: أَنَّ السَّبْعَ قَدْ تُذْكَرُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ لَا الْعَدَدُ وَالَّذِي فَوْقَ السِّتَّةِ وَدُونَ الثَّمَانِيَةِ وَرَوَى أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَنِ الْعَرَبِ: سَبَّعَ اللَّهُ لَكَ الْأَجْرَ أَيْ أَكْثَرَ ذَلِكَ يُرِيدُونَ التَّضْعِيفَ.وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} هُوَ جَمْعُ السَّبْعِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ لِلْكَثْرَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاحْتَمَلَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنَ السَّبْعِ وَلَفْظُهَا مَعْطُوفٌ عَلَى الثَّلَاثَةِ بِآلَةِ الْجَمْعِ فَيُفْضِي إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى الْعَدَدِ الْمَشْرُوعِ فَيَجِبُ حِينَئِذٍ رَفْعُ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِذِكْرِ الْفَذْلَكَةِ وَلِلْعَرَبِ مُسْتَنَدٌ قَوِيٌّ فِي إِطْلَاقِ السَّبْعِ وَالسَّبْعَةِ وَهِيَ تُرِيدُ الْكَثْرَةَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهِ.تَاسِعُهَا: أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَمَّا عُطِفَ عَلَيْهَا السَّبْعَةُ احْتَمَلَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهَا ثَلَاثَةٌ أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الْأَعْدَادِ فَقُيِّدَ بِالْعَشَرَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ كَمُلَ وَقَطَعَ الزِّيَادَةَ الْمُفْضِيَةَ لِلتَّسَلْسُلِ.عَاشِرُهَا: أَنَّ السَّبْعَةَ الْمَذْكُورَةَ عَقِبَ الثَّلَاثَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثَةُ دَاخِلَةً فِيهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ:
{وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها في أربعة أيام} أَيْ مَعَ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ خَلَقَ الْأَرْضَ.فِيهِمَا فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِقَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ لِيَنْدَفِعَ ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ فَجَاءَ التَّقْيِيدُ بِالْعَشَرَةِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ التَّدَاخُلِ وَهَذَا الْجَوَابُ أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَنُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السلام ترجيحه وردده ابن أبي الإصبع بأن احْتِمَالَ التَّدَاخُلِ لَا يُظَنُّ إِلَّا بِعَدَدَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ لَمْ يَأْتِ بِهِمَا جُمْلَةً فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى التَّفْصِيلِ احْتَمَلَ ذَلِكَ فَالتَّقْيِيدُ مَانِعٌ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَهَذَا أَعْجَبُ مِنْهُ فَإِنَّ مَجِيءَ الْجُمْلَةِ رافع لذلك الاحتمال.الحادي عشر: أَنَّ حُرُوفَ السَّبْعَةِ وَالتِّسْعَةِ مُشْتَبِهَةٌ فَأُزِيلَ الْإِشْكَالُ بقوله:
{تلك عشرة كاملة} لِئَلَّا يَقْرَءُوهَا تِسْعَةً فَيَصِيرُ الْعَدَدُ اثْنَيْ عَشَرَ وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا واحدا».